دُقَّ المسمار الأخير في نعش الانهيار المُتواصل من خلال تشريع الدولة تحت بند “حالة الطوارئ” منعًا للتهوّر الاجتماعي والأمني والفوضى، رفع سعر المحروقات على أساس سعر صرف 3900 ليرة، ليكون مرحلة تمهيدية لرفع أسعار كلّ السلع والخدمات، وفرض سعر صرف جديد في التعاملات النقدية. ومع توقّع أن يتمّ صرف ما تبقّى من أموال الاحتياط الإلزامي لدى المصرف المركزي، وُصولًا بعد ذلك إلى تسييل سبائك الذهب وبيعها، ومن ثمّ إلى تخصيص أملاك ومؤسّسات الدولة وبيعها أيضًا تكتمل فصول الارتطام الكبير بالفوضى وقعر الانهيار.
الخطر الداهم الذي يرافق جنون الدولار الذي قارب سعره 20 ألفًا والإجراءات “الترقيعية” وتلزيمها لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة يشي بحسب الخبراء إلى أنّ الاتجاه العام لقوى السلطة سيكون في المرحلة التالية من الانهيار استغلال ما تبقى من أموال المودعين، وتبديد الاحتياطي الإلزامي، لتمرير الفترة الزمنية الفاصلة لإدارة الأزمة المستفحلة حتى الانتخابات. الانتخابات التي تُعوّل الطبقة الحاكمة على تجديد تسلّطها على حياة اللّبنانيين مع رمي وعود خيالية حول إنعاش الاقتصاد وتأمين الوظائف والإصلاحات القطاعية ومكافحة الفساد.
بمنحة من الدولة يتفرّد حاكم المصرف المركزي بتحديد نمط استهلاك المواطنين اللّبنانيين، والقرار الذي صدر يوم الجمعة عن رئاسة مجلس الوزراء والموجّه إلى مصرف لبنان والقاضي على استعمال الاحتياطي الإلزامي لفتح اعتمادات لشراء المحروقات من بنزين ومازوت وغاز منزلي لمدّة ثلاثة أشهر على سعر صرف 3900 ليرة بدلًا من 1500 ليرة للدولار الواحد، هو إشارة الانطلاق نحو رفع أسعار السلح والخدمات المرتبطة بأسعار النفط والبنزين والمازوت المستخدمة بنقل البضائع وتخزينها. وسيكون الحجة الدامغة للتجار لرفع الأسعار وارتفاع موجة التضخّم التي ستقضي على ما تبقى للمواطنين من قدرات حياتية ومعيشية، دون أن يكون لهم استراتيجية حمائية تقيهم الجوع والعوز.
القرار الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء ينصّ على أنّ استيراد المحروقات سيتم على سعر صرف 3900 ليرة، كإجراء مؤقت قبل إنجاز البطاقة التمويلية التي ستُقدَّم كبديل من الدعم ويؤمن غطاءً قانونيًا لاستخدام جزء من أموال التوظيفات الإلزامية. البطاقة التي ستكون بندًا أساسيًا للجلسة التسريعية التي تُعقد يوم الخميس المقبل، لإقرارها في مجلس النواب. لكن لسخرية القدر فإن إقرار المجلس النيابي البطاقة التمويلية لن تجد من يُطبقها لا الحكومة الحالية العاجزة، ولا الحكومة الهُلامية التي لا يعلم تاريخ ولادتها أحد على الكرة الأرضية!.
وفق الآلية التي سيتبعها المصرف المركزي فهو سيؤمن الدولارات لشركات استيراد المحروقات، التي ستدفع ثمنها وفق سعر صرف 3900 ليرة لكلّ دولار. ويتمّ إيداع اللّيرات اللّبنانية في حساب الخزينة العامة كدين للدولة أي أنّ الدولة تستدين لصالح الشركات الخاصة.
رفع الدعم عن البنزين المغطى بقرار رفع التسعيرة وفق سعر صرف 3900، كخطوة لرفع الدعم عن باقي القطاعات يفرض ترقّبًا حذرًا لما ستؤول إليه أوضاع البلد عامة، لجهة اشتداد وطأة الأزمة مع رفع الدعم عن البنزين مطلع الأسبوع المقبل، حيث يتحدّث البعض عن انفجار كبير، واشتعال الشارع اللّبناني. هذا الشارع الذي بدأ بالتحرك واقترب من الفوضى والتوتر الأمني على غرار ما حصل في طرابلس ليل السبت يُنذر بأيامٍ ساخنة. كما قطع المحتجّون الطرقات في معظم المناطق اللّبنانية، وأُغلقت المحال التجارية أبوابها، في حين شهدت بعض المناطق إشكالات وإطلاق نار.
الغضب الشعبي من رفع الدعم تستعر نيرانه مع الارتفاع الجنوني لسعر الصرف في السوق الموازية. وارتفاع سعر الدولار المفتعل وغير المبرّر اقتصاديًا له أسباب، بحسب الخبراء، منها زيادة حجم المضاربات في السوق السوداء بهدف تأمين الدولار للمصارف قبل الأوّل من تموز موعد تسليم المودعين بضع مئات من الدولارات شهريًا لكلّ مودع وطلب كارتيل النفط الدولار لتأمين احتياجاته من العملة الصعبة تحسبًا لمرحلة رفع الدعم. ويلفت الخبراء الاقتصاديون إلى أنّ ارتفاع سعر صرف الدولار بهذه السرعة غير مرتبط بحركة التجار العادية إنّما بعملية شراء تفوق الـ500 مليون دولار.
عمليًا المصارف ستموّل عملية دفع الدولارات للبنانيين من جيوب اللّبنانيين لأنّها لا تملك العملات الصعبة الكافية لتنفيذ قرار الحاكم رقم 158 القاضي بدفع 400 دولار نقدًا للمودعين.
وهذا التذاكي في تمويل المآزق من قبل الجهات التي كانت سببًا فيها، يعالج أزمة صغيرة بكارثة أكبر. وإذا كانت الخطوة الرسمية هي تأمين استيراد المحروقات بصورة أسهل للسوق المحلية، إلّا أنّها تُضيف أعباءً ماليةً إضافية على المواطنين الذين يأنّون تحت وقع أسوأ أزمة إقتصادية تعصف بالبلاد، ذلك أنّ ارتفاع الأسعار لن يقتصر على المحروقات بل على كافة السلع والمواد التي تعتمد على البنزين والمازوت لتشغيل معاملها، فأسعار المواصلات حكمًا سترتفع إلى حدود 15% كذلك المواد الغذائية الأساسية وفي مقدمتها الخبز والطحين.
وبهذا الشأن يقول رئيس الاتحاد العمّالي العام بشارة الأسمر لـ”أحوال” إن “البلاد تتجه نحو الكارثة الفعلية، وزيادات في الأسعار ستعم كل القطاعات لأنها مرتبطة بالمحروقات وخاصة المازوت”. وستشمل الزيادة الخبز والسلع والخدمات الطبية في المستشفيات التي تعتمد على المولدات وتشتري المحروقات، وأيضًا المطاعم والملاهي والفنادق والمؤسسات العامة التي تعتمد المولدات حتى تعوض عن النقص في كهرباء لبنان كالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومرفأ بيروت ومصالح المياه وأوجيرو وغيرها.
توليد تداعيات مستجدة تؤجج الفوضى النقدية والمضاربات على سعر اللّيرة التي تنحدر من قعر إلى قعر ولقمة العيش التي يتم تهريبها من أفواه الناس، كل ذلك يقرّب اللّبنانيين من جهنم التي وعِدوا بها منذ أشهر فيما السلطة السياسية والمالية وكارتيلات الاحتكار تُكابر على أشلاء البلاد.
رانيا برو